الوحدة العربية تتجسد- السعودية وسوريا.. قصة أخوة ودعم.
المؤلف: بشرى فيصل السباعي09.12.2025

في الثاني من نوفمبر عام 1956، سطر التاريخ صفحة مضيئة في سجل الأخوة القومية والتماسك العربي؛ فإثر قصف العدوان الثلاثي الغاشم، الذي شنته بريطانيا وفرنسا وإسرائيل، على الإذاعة المصرية، انطلق صوت المذيع السوري القدير عبد الهادي بكار ليصدح بالعبارة الخالدة: "من دمشق.. هنا القاهرة". هذه المقولة الأيقونية، التي كانت بمثابة الشعار المميز للإذاعة المصرية، والتي لا تزال أصداؤها تتردد في أرجاء "يوتيوب"، تجسد أسمى معاني الوحدة والتآزر بين الأشقاء.
إن ما قدمته المملكة العربية السعودية الشقيقة تجاه سوريا المنكوبة، عقب سقوط النظام السابق، يُعد تجسيداً واقعياً وعملياً لهذه الأخوة المتينة والوحدة الراسخة. فالحكام الجدد في سوريا، والذين يحملون خلفية جهادية وتنتمي جماعتهم إلى قائمة التنظيمات المحظورة دولياً، بل إن أحدهم، أحمد الشرع، كان مطلوباً للعدالة الأمريكية مع مكافأة قدرها 10 ملايين دولار لمن يدلي بمعلومات عنه، كان من شأن ذلك أن يؤدي إلى مقاطعة دولية للنظام السوري الجديد وفرض عقوبات مشددة عليه، تماماً كما حدث في أفغانستان بعد استيلاء حركة طالبان على السلطة.
إلا أن هذا السيناريو المتوقع لم يتحقق بفضل الدعم السعودي اللامحدود لسوريا. فقد بادرت المملكة، منذ اللحظة الأولى، بإنشاء جسر جوي وبحري لتقديم المساعدات الإغاثية والخدمات الضرورية للشعب السوري. كما مارست ضغوطاً حثيثة في المحافل الدولية وعلى دول العالم لتقبل النظام الجديد في سوريا ورفع العقوبات المفروضة عليها. وقد تكللت هذه الجهود بالنجاح، حيث تم تتويجها بزيارة الرئيس الأمريكي إلى السعودية، ولقائه بالرئيس السوري، وإعلانه عن رفع العقوبات عن سوريا.
ولم تقتصر المبادرات السعودية على ذلك، بل قامت المملكة أيضاً بسداد الديون المتأخرة لسوريا لدى البنك الدولي، مما يمثل مكسباً كبيراً في طريق عودة سوريا إلى الحضن العربي الدافئ. وقد بادل الشعب السوري الأصيل هذا الجميل بالثناء والتقدير للموقف السعودي الأخوي عبر حساباتهم في مواقع التواصل الاجتماعي. كما عبر الرئيس السوري عن شكره وامتنانه للمملكة في خطابه، وقام بإضاءة جبل قاسيون بدمشق بعبارة "شكراً السعودية"، مما جدد مبدأ الأخوة والوحدة العربية الذي كاد أن يندثر.
للأسف الشديد، شهدت العلاقات بين الشعوب العربية في الآونة الأخيرة فتوراً ملحوظاً، وحلت محلها الشحناء والضغائن التي أشعلها أصحاب النفوس المريضة والشخصيات السامة، الذين بثوا سمومهم في مواقع التواصل الاجتماعي، وأثاروا نعرات الشوفينية والعنجهية والعنصرية والكبر والعدوانية، وتعصبوا للانتماء الوطني بشكل أعمى.
لذا، فإن التوقف عند مواقف التضامن والمساندة والمساعدة بين الدول العربية، والإشادة بها كتجسيد للأخوة العربية، يكتسب أهمية بالغة في تنقية الأجواء من سموم الشوفينية وتجديد مشاعر الأخوة والوحدة العربية. فقوة العرب تكمن في وحدتهم وتضامنهم، لا في تفرقهم وتناحرهم. وقد كشفت مصادر صحفية موثوقة أن العديد من الحسابات التي تثير النعرات العنصرية والشوفينية بين الشعوب العربية وتحرض العرب على معاداة بعضهم البعض، تقف خلفها وحدة إسرائيلية استخباراتية من المستعربين تحمل اسم "الوحدة 8200" (كما ذكرت صحيفة الرياض يوم الخميس 15 شوال 1442).
وهناك فرق جوهري بين الوطنية، وهي شعور إيجابي ينبع من الوفاء للوطن، وبين الشوفينية، وهي شعور سلبي ينبع من الشعور العنجهي العدواني العنصري والمتكبر ضد كل من هم ليسوا من الوطن. فكلما نشر الشخص المزيد من البغضاء والتحريض والعدوانية والعنصرية والعنجهية ضد الآخرين، كلما اعتبر نفسه وطنياً أكثر. إذن، جوهر الشوفينية هو البغضاء، بينما جوهر الوطنية هو الحب. فالوطنية تجعل الشخص إيجابياً، بينما الشوفينية تجعله شخصاً سلبياً ساماً.
إن سيادة خطاب الشوفينية دليل قاطع على غياب دور القيادات الفكرية عن فضاء مواقع التواصل، والتي يفترض أن يكون لها دور فعال في ترشيد الاتجاهات العامة وتنقيتها من النزعات السلبية كالشوفينية، وتكريس الأخوة والوحدة العربية.
إن أهم ما يكرس مبدأ الأخوة والوحدة العربية ويضاد تيار الشوفينية هو الإشادة بمواقف التضامن والمساندة والمساعدة العربية من منظور الأخوة والوحدة، وليس من منظور المنّ والتكبر على الإخوة العرب بالمساعدات التي بذلت لهم وإرادة إشعارهم بالدونية، مما يتضمن إهانتهم وإذلالهم. فهذا يولد ردة فعل دفاعية سلبية لدى الأطراف الأخرى، ويكبر كرة التحريض الشوفيني حتى تصل إلى أرض الواقع وتؤدي إلى تعامل الأفراد مع بعضهم بشكل سيئ على أرض الواقع، لدرجة ارتكاب جرائم كراهية.